اترك كل منبهر في حدود انبهاره…
بقلم د. غادة فتحي الدجوي
اترك كل منبهر في حدود انبهاره… واحفظ مساحتك لتبقى العلاقة نضرة
الحياة علاقاتٌ تبنى على توازنٍ دقيق بين القرب والمسافة، بين الانكشاف والغموض، بين الحميمية والحدود. الانبهار بمن نحب هو شعورٌ يضفي على الحياة بهاءً، لكنه يحتاج إلى مسافة معقولة ليبقى متجددا. فكما أن الزهرة تذبل إذا لمسناها أكثر من اللازم، فإن العلاقات تفقد سحرها إذا اقتربنا منها أكثر مما يجب.
الحدود ليست جدراناً عازلة، بل هي مساحاتٌ ضرورية تسمح للعلاقة بالتنفس. عندما نسمح لأحدهم بالدخول إلى كل تفاصيلنا دون تحفظ، عندما نجعله يرانا “كتاباً مفتوحاً” بلا أسرار ولا مساحات شخصية، فإننا نقتل شيئاً أساسياً في العلاقة: الغموض. والغموض ليس خداعاً، بل هو ذلك الجزء منا الذي يبقى محفوظاً لذاتنا، فيمنح الآخر فرصة لاكتشافنا شيئاً فشيئاً، كمن يقلب صفحات كتاب شيق بمتعة وتوقع.
المشكلة ليست في القرب، بل في الاختراق. عندما نكسر الحدود بيننا وبين من نحب أكثر من اللازم، نصبح أمامهم عاريين من كل سحر، مكشوفين من كل غموض. حينها يختفي الانبهار، لأن الانبهار يحتاج إلى مسافة ليبقى. هل سبق لك أن رأيت لوحةً فنيةً عن قربٍ شديد؟ ستجد فقط ضربات فرشاة عشوائية، لكنك لن ترى الجمال إلا إذا عدت إلى الخلف قليلاً. هكذا هي العلاقات أيضاً.
حتى في أعمق العلاقات وأكثرها حميمية، تبقى هناك مناطق شخصية لا يجب اجتيازها. هذا ليس نفاقاً، بل حكمة. الزوج الذي يحتفظ ببعض أفكاره لنفسه، والصديق الذي لا يشارك كل صغيرة وكبيرة، والابن الذي يحتفظ بمساحة من خصوصيته حتى مع أبويه – كل هؤلاء لا يفعلون ذلك بسبب عدم ثقة، بل لأنهم يعرفون أن الحب الحقيقي يحتاج إلى هواء ليبقى حياً.
كيف نحافظ على هذا التوازن في حياتنا اليومية؟ ابدأ بأن تحتفظ بمساحة صغيرة لنفسك، حتى مع أقرب الناس إليك. لا تُفرط في مشاركة كل شيء، دع بعض الأمور تبقى خاصة بك. لا تخف من قول “هذا شأني” عندما تشعر أن حدودك تتهدد. تذكر أن الحب ليس ذوباناً في الآخر، بل هو لقاء بين شخصين كاملين، كل منهما يحتفظ بكيانه.
في النهاية، العلاقة الجميلة هي التي تجد فيها نفسك قريباً بما يكفي لتشعر بالدفء، وبعيداً بما يكفي لترى الجمال. اترك كل منبهر في حدود انبهاره، واحفظ لنفسك مساحتك، فالحب ليس أن تفقد نفسك في الآخر، بل أن تجد نفسك بجانبه، كاملاً، حراً، ومليئاً بالغموض الجميل الذي يجعل العلاقة تستحق أن تعاش.
