الاستثمار المحلي.. الطاقات المعطلة في الوطن

كتب/شحاته زكريا
الحديث عن جذب الاستثمار الأجنبي يتكرر يوميا في وسائل الإعلام كأن خلاصنا الاقتصادي معقود على توقيع عقود خارجية وحقائب دولارية تهبط من السماء. لكن قلّما نتوقف لنسأل: وماذا عن الاستثمار المحلي؟ أين هي طاقاتنا المعطلة ولماذا يشعر المستثمر الوطني أحيانا أنه غريب في وطنه؟
الاستثمار المحلي ليس بديلا اضطراريا في غياب الأجنبي بل هو الركيزة الأساسية لأي اقتصاد قوي. فمن دون قاعدة محلية صلبة لا يستطيع الاستثمار الأجنبي أن يصمد ولا أن ينمو. الوطن لا تُبنيه الأموال العابرة بل تُقيمه أيادي أبنائه وإرادتهم وثقتهم في الغد.
لدينا في مصر طاقات استثمارية كبيرة من رجال أعمال وطنيين وصغار مستثمرين وحرفيين وشباب طموح. لكنّ هذه الطاقات تظل معلقة في هواء البيروقراطية، أو محبوسة خلف أبواب التمويل المعقد أو محاصَرة بتشريعات غير متجددة أو مكدّسة في حوارات لا تنتهي حول “المناخ الاستثماري .
الفرص الحقيقية للاستثمار ليست فقط في العقارات أو الكيانات الكبرى بل في القطاعات التي تشغّل الناس، وتضيف قيمة حقيقية. الصناعات الصغيرة الاقتصاد الزراعي الذكي التصنيع المحلي للمستلزمات الأساسية، الرقمنة، والطاقة المتجددة… كلها مجالات تحتاج إلى مستثمر محلي يفهم الواقع ويحلم بتغييره.
لكن لماذا لا يتدفق رأس المال المحلي بالشكل الكافي؟ هنا نحتاج إلى الصراحة: بعض المستثمرين المحليين يخشون الدخول في مشاريع طويلة الأجل بسبب تعقيدات التراخيص وعدم استقرار بعض القوانين وطول أمد التقاضي في المنازعات فضلا عن نظرة التشكيك التي تواجههم أحيانا.
أضف إلى ذلك غياب الحوافز الذكية. نحن لا نحتاج إلى إعفاءات مطلقة بل إلى رؤية واضحة: من يذهب إلى صناعة استراتيجية يُمنح أولوية في التسهيلات ومن يستثمر في المناطق الحدودية أو القرى الفقيرة يجد دعمًا مباشرا، ومن يشغّل عددا معينا من العمال يحصل على مزايا ضريبية.
أخطر ما يواجه الاستثمار المحلي ليس المال بل غياب الثقة. فحين يشعر المستثمر أن هناك تفرقة بين “الوطني” و”الأجنبي”، أو أن المساحات الآمنة تضيق يلجأ إلى الطريق الأسهل: إيداع أمواله في البنك أو تحويلها إلى عقار ، أو تهريبها بهدوء إلى الخارج.
ولهذا فإن استعادة الثقة يجب أن تكون مشروعا وطنيا متكاملا. خطاب رسمي يطمئن ، وإجراءات فعلية تبسط ، ومؤسسات تستمع وتستجيب. لا بد أن نكفّ عن اعتبار المستثمر الوطني متهربا محتملا أو طرفا في معادلة الشك. إنه شريك بل العمود الفقري للنمو الاقتصادي.
تخيل فقط لو تمكنا من استثمار 10٪ من الأموال المدخرة في البنوك المصرية في مشروعات إنتاجية حقيقية. أو لو تم تحويل 20٪ من الأموال المستثمرة في الذهب والعقارات إلى مصانع صغيرة أو شركات تكنولوجيا. كم فرصة عمل ستُخلق؟ كم قرية ستحيا من جديد؟ كم منتجًا محليًا سيغزو الأسواق؟
الاستثمار المحلي ليس مجرد قضية اقتصادية بل هو قضية سيادة وطنية. حين يُنتج المواطن على أرضه من موارده وتحت علم بلاده فإنه لا يصنع أرباحًا فقط بل يصنع وطنا أكثر استقرارًا وقوة لا يمد يده لمساعدة ولا يخضع لابتزاز ولا يخاف من الغد.
نحن بحاجة إلى قانون استثمار وطني يُراعي خصوصية المستثمر المحلي ويضعه في قلب المعادلة. بحاجة إلى إعلام يُبرز النماذج الناجحة ويُصحّح الصورة النمطية. وبحاجة إلى دولة تستثمر في المستثمر قبل أن تطلب منه أن يستثمر فيها.
الطاقات المعطلة في الوطن لا تُحرّكها التصريحات بل الأفعال. ولا يكفي أن نُكرّم من نجح بل لا بد أن نزيح المعوقات أمام من يحاول أن ينجح. لأن الوطن لا يكبر فقط بمن فيه ، بل يكبر بما فيه من ثقة، وعمل ، وشراكة عادلة.